الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
.تفسير الآية رقم (42): قوله تعالى: {لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لَاتَّبَعُوكَ وَلَكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (42)}.مناسبة الآية لما قبلها: قال البقاعي:ولما كان هذا العتاب مؤذنًا بأن فيهم من تباطأ عن الجهاد اشتغالًا بنحو الأموال والأولاد، وكان ما اشتملت عليه هذه الآيات من الأوامر والزواجر والمواعظ جدير: بأن يخفف كل متثاقل وينشط كل متكاسل، تشوفت النفوس إلى ما اتفق بعد ذلك فأعلم سبحانه به في أساليب البلاغة المخبرة عن أحوال القاعدين وأقاصيص الجامدين المفهمة ان هناك من غلب عليه الشقاء فلم ينتفع بالمواعظ، فالتفت من لطف الإقبال إلى تبكيت المتثاقلين بأسلوب الإعراض المؤذن الغضب المحقق للسخط المبين لفضائحهم المبعثر لقبائحهم المخرج لهم ما دخلوا فيه من عموم الدعاء باسم الإيمان فقال: {لو كان} أي ما تدعوا إليه {عرضًا} أي متاعًا دنيويًا {قريبًا} أي سهل التناول {وسفرًا قاصدًا} أي وسطًا عدلًا مقاربًا {لا تبعوك} أي لأجل رجاء العرض مع سهولة السفر لأن هممهم قاصرة ومنوطة بالحاضر {ولكن} أي لم يتبعوك تثاقلًا إلى الأرض ورضى بالفاني الحاضر من الباقي الغائب لأنها {بعدت عليهم الشقة} أي المسافة التي تطوى بذرع الأرجل بالمسير فيحصل بها النكال والمشقة فلم يواز ما يحصل لهم بها من التعب ما يرجونه من العرض، فاستأذنوك، وفي هذا إشارة إلى ذمهم بسفول الهمم ودناءة الشيم بالعجز والكسل والنهم والثقل، وإلى أن هذا الدين متين لا يحمله إلا ماضي الهم صادق العزم كما قال الشاعر:فلله در أولي العزائم والصبر على الشدائد والمغارم! ولما ذمهم بالشح بالدنيا، أتبعه وصمهم بالسماح بالدين فقال مخبرًا عما سيكون منهم علمًا من أعلام النبوة: {وسيحلفون} أي المتخلفون باخبار محقق لا خلف فيه {بالله} أي الذي لا أعظم منه عند رجوعكم إليهم جمعًا إلى ما انتهكوا من حرمتك بالتخلف عنك لانتهاك حرمة الله بالكذب قائلين: والله: {لو استطعنا} أي الخروج إلى ما دعوتمونا إليه {لخرجنا معكم} يحلفون حال كونهم {يهلكون أنفسهم} أي بهذا الحلف الذي يريدون به حياتها لأنهم كذبوا فيه فانتهكوا حرمة اسم الله: {والله} أي والحال أن الملك الأعظم المحيط علمًا وقدرة سبحانه: {يعلم إنهم لكاذبون} فقد جمعوا بين إهلاك أنفسهم والفضيحة عند الله بعلمه بكذبهم في انهم غير مستطيعين، وجزاء الكاذب في مثل ذلك الغضب المؤيد الموجب للعذاب الدائم المخلد. اهـ. .من أقوال المفسرين: .قال الفخر: {لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لَاتَّبَعُوكَ وَلَكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ}اعلم أنه تعالى لما بالغ في ترغيبهم في الجهاد في سبيل الله، وكان قد ذكر قوله: {يا أيها الذين ءامَنُواْ مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفروا في سَبِيلِ الله اثاقلتم إِلَى الأرض} [التوبة: 38] عاد إلى تقرير كونهم متثاقلين، وبين أن أقوامًا، مع كل ما تقدم من الوعيد والحث على الجهاد، تخلفوا في غزوة تبوك، وبين أنه {لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لاَّتَّبَعُوكَ} وفي الآية مسائل:.المسألة الأولى: [في مفردات الآية]: العرض ما عرض لك من منافع الدنيا، يقال: الدنيا عرض حاضر يأكل منه البر والفاجر.قال الزجاج: فيه محذوف والتقدير: لو كان المدعو إليه سفرًا قاصدًا، فحذف اسم (كَانَ) لدلالة ما تقدم عليه.وقوله: {وَسَفَرًا قَاصِدًا} قال الزجاج: أي سهلًا قريبًا.وإنما قيل لمثل هذا قاصدًا، لأن المتوسط، بين الإفراط، والتفريط، يقال له: مقتصد.قال تعالى: {فَمِنْهُمْ ظالم لّنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُّقْتَصِدٌ} [فاطر: 32] وتحقيقه أن المتوسط بين الكثرة والقلة يقصده كل أحد، فسمي قاصدًا، وتفسير القاصد: ذو قصد، كقولهم لابن وتامر ورابح.قوله: {ولكن بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشقة} قال الليث: الشقة بعد مسيره إلى أرض بعيدة يقال: شقة شاقة، والمعنى: بعدت عليهم الشاقة البعيدة، والسبب في هذا الاسم أنه شق على الإنسان سلوكها.ونقل صاحب الكشاف عن عيسى بن عمر: أنه قرأ {بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشقة} بكسر العين والشين..المسألة الثانية: [في نزول هذه الآية في المنافقين الذين تخلفوا عن غزوة تبوك]: هذه الآية نزلت في المنافقين الذين تخلفوا عن غزوة تبوك، ومعنى الكلام أنه لو كانت المنافع قريبة والسفر قريبًا لاتبعوك طمعًا منهم في الفوز بتلك المنافع، ولكن طال السفر فكانوا كالآيسين من الفوز بالغنيمة، بسبب أنهم كانوا يستعظمون غزو الروم، فلهذا السبب تخلفوا.ثم أخبر الله تعالى أنه إذا رجع من الجهاد يجدهم {يَحْلِفُونَ بالله لَوِ استطعنا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ} إما عندما يعاتبهم بسبب التخلف، وإما ابتداء على طريقة إقامة العذر في التخلف، ثم بين تعالى أنهم يهلكون أنفسهم بسبب ذلك الكذب والنفاق.وهذا يدل على أن الأيمان الكاذبة توجب الهلاك، ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: «اليمين الغموس تدع الديار بلاقع».ثم قال: {والله يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لكاذبون} في قولهم ما كنا نستطيع الخروج، فإنهم كانوا مستطيعين الخروج..المسألة الثالثة: [عدم الاستطاعة عذر في التخلف]: دلت الآية على أن قوله: {انفروا خِفَافًا وَثِقَالًا} إنما يتناول من كان قادرًا متمكنًا، إذ عدم الاستطاعة عذر في التخلف..المسألة الرابعة: [في الاستطاعة مع الفعل]: استدل أبو علي الجبائي بهذه الآية على بطلان أن الاستطاعة مع الفعل، فقال: لو كانت الاستطاعة مع الفعل لكان من يخرج إلى القتال لم يكن مستطيعًا إلى القتال، ولو كان الأمر كذلك لكانوا صادقين في قولهم: ما كنا نستطيع ذلك، ولما كذبهم الله تعالى في هذا القول، علمنا أن الاستطاعة قبل الفعل.واستدل الكعبي بهذا الوجه أيضًا له، وسأل نفسه لا يجوز أن يكون المراد به: ما كان لهم زاد ولا راحلة، وما أرادوا به نفس القدرة.وأجاب: إن كان من لا راحلة له يعذر في ترك الخروج، فمن لا استطاعة له أولى بالعذر.وأيضًا الظاهر من الاستطاعة قوة البدن دون وجود المال، وإذا أريد به المال، فإنما يراد لأنه يعين على ما يفعله الإنسان بقوة البدن، فلا معنى لترك الحقيقة من غير ضرورة.وأجاب أصحابنا: بأن المعتزلة سلموا أن القدرة على الفعل لا تتقدم على الفعل، إلا بوقت واحد، فأما أن تتقدم عليه بأوقات كثيرة فذلك ممتنع، فإن الإنسان الجالس في المكان لا يكون قادرًا في هذا الزمان أن يفعل فعلًا في مكان بعيد عنه، بل إنما يقدر على أن يفعل فعلًا في المكان الملاصق لمكانه فإذا ثبت أن القدرة عند القوم لا تتقدم الفعل إلا بزمان واحد، فالقوم الذين تخلفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما كانوا قادرين على أصول المعتزلة، فيلزمهم من هذه الآية ما ألزموه علينا، وعند هذا يجب علينا وعليهم، أن نحمل الاستطاعة على الزاد والراحلة وحينئذ يسقط الاستدلال..المسألة الخامسة: [في معجزة إخبار النبي صلى الله عليه وسلم عن حلفهم]: قالوا الرسول عليه الصلاة والسلام أخبر عنهم أنهم سيحلفون، وهذا إخبار عن غيب يقع في المستقبل، والأمر لما وقع كما أخبر، كان هذا إخبارًا عن الغيب، فكان معجزًا، والله أعلم. اهـ..قال السمرقندي: ثم نزل في شأن المنافقين الذين تخلفوا قوله تعالى: {لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا} يعني: غنيمة قريبة ويقال: سهلًا قريبًا.{وَسَفَرًا قَاصِدًا}، يعني: هينًا يقينًا، {لاَّتَّبَعُوكَ}؛ يعني: لو علموا أنهم يصيبون مغنمًا، {لاَّتَّبَعُوكَ ولكن بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشقة} والشقة: السفر، يعني: ثقل عليهم السفر.{وَسَيَحْلِفُونَ بالله}، أي الذين تخلفوا.{لَوِ استطعنا}، يعني: لو قدرنا ولو كانت لنا سعة في المال والزاد، {لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ} إلى الغزو.وقال الله تعالى: {يُهْلِكُونَ أَنفُسَهُمْ}، يعني: بحلفهم كذبًا.{والله يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لكاذبون} بحلفهم، وأن لهم سعة للخروج، ولكنهم لم يريدوا الخروج. اهـ..قال الثعلبي: ثم نزل في المتخلفين عن غزوة تبوك من المنافقين {لَوْ كَانَ} اسمه مضمر أي لو كان ما يدعوهم إليه {عَرَضًا قَرِيبًا} غنيمة حاضرة {وَسَفَرًا قَاصِدًا} وموضعًا قريبًا.قال المبرّد: قاصدًا أي ذا قصد نحو تامر ولابن، وقيل: هو طريق مقصود فجعلت صفته على فاعلة بمعنى مفعولة كقوله: {عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ} [الحاقة: 21] أي مرضية.{لاَّتَّبَعُوكَ ولكن بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشقة} يعني المسافة وقال الكسائي: هي الغزاة التي يخرجون إليها، وقال قطرب: هي السفر البعيد سمّيت شقة لأنّها تشقّ على الانسان، والقراءة بضم الشين وهي اللغة الغالبة، وقرأ عبيد ابن عمير بكسر الشين وهي لغة قيس.{وَسَيَحْلِفُونَ بالله لَوِ استطعنا} قرأ الأعمش بضم الواو لأن أصل الواو الضمة، وقرأ الحسن بفتح الواو لأن الفتح أخفّ الحركات، وقرأ الباقون بالكسر لأن الجزم يحرّك بالكسر {لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ} بالحلف الكاذب {والله يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} في أيمانهم واعتلالهم. اهـ..قال الماوردي: قوله عز وجل: {لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا} أي لو كان الذي دُعيتم إليه عرضًا قريبًا. وفيه وجهان:أحدهما: يعني بالعرض ما يعرض من الأمور السهلة.والثاني: يعني الغنيمة.{وَسَفَرًا قَاصِدًا} أي سهلًا مقتصدًا.{لاَّتَّبُعُوكَ} يعني في الخروج معك.{وَلَكِنْ بَعْدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ} والشقة هي القطعة من الأرض التي يشق ركوبها على صاحبها لبعدها.{وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ} يحتمل وجهين:أحدهما: لو استطعنا فراق أوطاننا وترك ثمارنا.والثاني: لو استطعنا مالًا نستمده ونفقةً نخرج بها لخرجنا معكم في السفر الذي دعوا إليه فتأخروا عنه وهو غزوة تبوك.ثم جاءوا بعد ذلك يحلفون بما أخبر الله عنهم من أنهم لو استطاعوا لخرجوا تصديقًا لقوله تعالى وتصحيحًا لرسالة نبيه صلى الله عليه وسلم.{يُهْلِكُونَ أَنفُسَهُمْ} يحتمل وجهين:أحدهما: يهلكون أنفسهم باليمين الكاذبة.والثاني: يهلكون أنفسهم بالتأخر عن الإجابة. اهـ..قال ابن عطية: قوله: {لو كان عرضًا قريبًا} الآية.ظاهر هذه الآية وما يحفظ من قصة تبوك أن الله لما أمر رسوله بغزو الروم نذب الناس وكان ذلك في شدة من الحر وطيب من الثمار والظلال، فنفر المؤمنون، واعتذر منهم لا محالة فريق لاسيما من القبائل المجاورة للمدينة، ويدل على ذلك قوله في أول هذه الآية.{يا أيها الذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض} [التوبة: 38]، لأن هذا الخطاب ليس للمنافقين خاصة بل هو عام، واعتذر المنافقون بأعذار كاذبة، وكانوا بسبيل كسل مفرط وقصد للتخلف وكانت أعذار المؤمنين خفيفة ولكنهم تركوا الأولى من التحامل، فنزل ما سلف من الآيات في عتاب المؤمنين، ثم ابتدأ من هذه الآية ذكر المنافقين وكشف ضمائرهم، فيقول لو كان هذا الغزو لعرض أي لمال وغنيمة تنال قريبًا بسفر قاصد يسير لبادروا إليه، لا لوجه الله ولا لظهور كلمته، ولكن بعدت عليهم الشقة في غزو الروم أي المسافة الطويلة، وذكر أبو عبيدة أن أعرابيًا قدم البصرة وكان قد حمل حمالة فعجز عنها، وكان معه ابن له يسمى الأحوص فبادر الأحوص أباه بالقول، فقال إنا من تعلمون وابنا سبيل وجئنا من شقة ونطلب في حق وتنطوننا ويجزيكم الله فتهيأ أبوه ليخطب فقال له يا إياك إني قد كفيتك.قال القاضي أبو محمد: يا تنبيه وإياك نهي، وقرأ عيسى ابن عمر {الشِّقة} بكسر الشين، وقرأ الأعرج {بعِدت} بكسر العين، وحكى أبو حاتم أنها لغة بني تميم في اللفظتين، وقوله: {سيحلفون بالله} يريد المنافقين، وهذا إخبار بغيب، وقوله: {يهلكون أنفسهم} يريد عند تخلفهم مجاهرة وكفرهم، فكأنهم يوجبون على أنفسهم الحتم بعذاب الله.ثم أخبر أن الله الذي هو أعدل الشاهدين يعلم كذبهم وأنهم كانوا يستطيعون الخروج ولكنهم تركوه كفرًا ونفاقًا، وهذا كله في الجملة لا بتعيين شخص ولو عين لقتل بالشرع، وقرأ الأعمش على جهة التشبيه بواو ضمير الجماعة {لوُ استطعنا} بضم الواو، ذكره ابن جني، ومثله بقوله تعالى: {لقد ابتغوا الفتنة} [التوبة: 48] {فتمنوا الموت} [البقرة: 94] و{اشتروا الضلالة} [البقرة 16-175]. اهـ.
|